مينا ملاك (( طائر الليل الحزين )) مخرج مسرحى مؤلف وكاتب سيناريو وحوار .. مصمم أستعراضات شاعر وملحن .. وكاتب قصص
الأحد، 9 أكتوبر 2011
فن البانتومايم .. الصمتُ الآسر !
البانتومايم .. الصمتُ الآسر !
________________________________________
أن من الارجح -ومنذ زمن بعيد - أن يكون لهذا الفن مدارسه الخاصة ورواده الذين يتتلمذ على ايديهم ممثلي هذا الفن ، لانه فـن صعب المنال على الممثل ولا يمكن ان يكون ارتجاليا بعد كل ما عرفناه من دقة عروضه وقدرة ممثليه في اظهار تقنياته التي لايستهان بها ، وان من الواضح ، قد استطاع هؤلاء الممثلون من الوصول الى التجسيد ( التكوين على المسرح بواسطة الحركة فقط ) بواسطة اجسادهم بعيدا عن الادوات الاخرى التي يستخدمها ممثلوا المسرحيات الحوارية اليوم من اكسسوارات كثيرة وازياء فخمة وديكورات واسعة تملا٧ خشبة المسرح واجهزة صوت وإضاءة . . الخ من عدد وادوات و اجهزة ما عـاد للمسرح ان يتخلص منها بل من الصعب تقديم عروضه بدونها و التي اصبحت عائقا بين المتفرج و ممثليه ن انما هي ادوات يستخدمها المخرجون ضنا منهم انهم بذلك يستطيعون الوصول الى ذهن المتلقي باسهل ما يمكن من الوصول . . ولسنا هنا بصدد هذا الموضوع فله مبحث اخر - بقدر ما نحاول الوصول بالقارئ الى بساطة ادوات من التمثيل الصامت رغم صعوبة ادائه على الممثل وبمعنى انه فن ممثل وليس فن تقنيات ( تكنلوجية ) ولم نجد مثله فتنة وجاذبية ومثار للجدل و الاعجاب الذي يفوق الحد لممثلين يتميزون بالكفاءة و المقدرة منذ عهود موغلة بالـقدم وقبل ظهور الحوار في المسرح .
ومن الشواهد للسجل التاريخي لهذا الفن تم العثور في عام 1890 على لفة من اوراق البردي تحتوي على مخطوطات لثلاث عشر مسرحية ( بانتومايم ) كتبها ( هيرونداس ) الذي عاش في الاسكندرية حوالي عام ( 270 )ق. م ، وغير هذا فلقد كانت الحافظة لهذا الفن هي ذكريات المشاهدين . . كما ان التأثير في التمثيل الصامت ( البانتومايم ) مسألة ذاتية بحتة فنحن نعتبره عظيما اذا ما احدث تأثيرا عظيما في المتلقي . فتقول احدى الحكايات القديمة ان
( ليفيوس اندرونيكوس) استاجر بعد اصابته بالخرس بعد عام (240)ق 0م ممثلا كي يلقي قصائده بالنيابة عنه فيما يواصل هو اداء الجانب الايمائي متأثر بفن التمثيل الصامت في بلده (اليونان )حيث كان فنا قائما بذاته والذي اصبح فيما بعد البانتومايم اليوناني ذو اثر بقوة فاعلية عروضه وممثليه ذو تاثير على (البانتومايم الروماني ) فقد استطاع تحقيق نجاح كبير ، واتساع واضح على مستوى تعدد اماكن عروضه وكثرتها وقوة الاداء لممثليه . ومما يشار اليه من اسماء مشهورة والتي ما زالت باقية تذكر حتى يومنا هذا امثال(بيلادس ) ذلك الممثل الذي غدا علما من اعلام المسرح الروماني ومعلما بارعا في اقتناص تقنيات ممثل البانتومايم اليوناني ونقلها الى عصره مزاولا فنه ببراعة تذهل متفرجيه من العامة أو النخبة على حد سواء .
ان فــن البانتومايم عند الرومان اتخذ اشكالا متعددة لطريقة العرض . . اذ انه لم يقتصر عروضه على مسرح المعبد كما كان عند اليونان بل تخطى ذلك الى عروض خارج ذلك المكان منطلقا لى الصالات والساحات العامة . ويمكن تقسيم اشكال عرض البانتومايم الى شكلين او قسمين : الاول يسمى (بانتومايم البيوت ) و الذي كان مكرسا للعروض التي تجري في صالات بيوت الامراء و الصالات الخاصة بالمسرح وقد كان جمهوره من الطبقة الخاصة من نبلاء وامراء وحاشية القصر و الذين كانوا بدورهم يدعون الممثل وفرقته ويلتزمون انتاج عروضهم ومكافأة الممثلين . . ولقد كانت هذه العروض غير خالية من التمحيك و التعظيم المغلف بالسخرية التي تؤدي بالممثل -احيانا - الى رميه في اقفاص الوحوش . او عروض اخرى جادة .
و القسم الثاني الذي يسمى بانتومايم الشوارع والذي كان مكرسا لعروض التمثيل الصامت في الاماكن العامة و الساحات و الشوارع في المدن لعامة الناس من المتفرجين ، وكان ذو اسلوب مختلف عن الاسلوب الذي تعرض به مسرحيات ( بانتومايم البيوت ) حيث ان الطابع الكرنفالي في هذه العروض هو الطاغي على الاسلوب التمثيلي بشكل عام حيث الكوميديا التهويل في الحركة و التعبير الجسدي و الموضوع الشعبي الساخر الذي تتناوله تلك العروض وان الجمهور كذلك مختلفا عن جمهور ( بانتومايم البيوت ) و الذي كان جمهوره خاصا -كما ذكرنا -اما ( بانتومايم الشوارع ) فكان جمهوره من العامة وطبقات الشعب المختلفة اما القسم الثالث و الذي جاء كمرحلة متطورة لما سبقه من هذه العروض عند الرومان و الذي فرض طابعه على ملعب (البانتومايم الروماني ) حيث برز بعد تلك المرحلة . . واتخذ شكله النهائي في تلك الفترة من القرن الثاني و الرابع ، اذ انه واصل نشاطه بصمت دؤوب ونجاح فقد كانت تلك العروض المأساوية (Trajedy Pantomime) اسلوبا جديدا يعرض في بلاط الامبراطور أو في اسلوب ( بانتومايم البيوت ) الذي تحدثنا عنه . فقد اصبح العرض الكوميدي يكاد يكون معدوما بين تلك العروض التي اتخذت شكل عروض الصالات الى الجمهور النخبة من النبلاء و الامراء ، بينما بقي استمرار عروض ( بانتومايم الشوارع ) يقدم عروضه الكوميدية و التي اطلق عليها (Mimus) فيما بعد و التي اتخذت لها اصولا وقواعد اكثر تطورا من ذي قبل لتظهر امام جمهور اكبر خارج القصور و الصالات وكانت تلك المهازل الكوميدية تختلط بذكريات المهازل الاتيلية و المهازل الاغريقية الاصيلة وقد كانت تلك العروض متنوعة بطابعها والتي احيانا تتخذ شكل ملهاة الضرب والتعثر (Knuck and tumbel) اي المقالب ، واحيانا تعرض مسرحيات الملهات المحزنة وكانت لكل شكل من اشكال هذه العروض فرقها المتميزة عن غيرها في اساليب ادائها وعروضها وحتى طرق تقديمها للعروض
و الموضوعات المسرحية التي بالتالي قد استطاعت أن تجعل لكل نوع من تلك العروض جمهورها وروادها ، حيث انتشرت الفرق المسرحية الصامتة و التي كانت في بعض الاحيان تتجاوز الست ممثلين من المتجولين و المسليين و احيانا تتطلب بعض العروض فرقا يبلغ حجمها حجم الفرق اللازمة في ملهاة حديثة .
وفيما بعد سقطت روما امام الغزو في بداية القرن الخامس ، و تغيرت الاحوال جميعا الا التمثيل الصامت فقد كان عنيدا في استمراره وكان الممثلون في اداء هذا الفن يكثرون من عروضهم في طول الامبراطورية وعرضها ، ولابد انهم قد لقوا اياما سوداء في تلك الظروف
الجديدة ، فلم يكن القوط ولا الوندال ولا الهوت من الاقوام الغازية على استعداد لتقدير هذه الجهود المسرحية ، هذا اضافة الى غضب الكنيسة من الطريقة التي وضعت بها طقوسها موضع السخرية من علىالمسرح بشكل عام ، غير انه يبدو أن هؤلاء الممثلون واصلوا عملهم الصامت حتى في عصور الظلام .
هذا ولم يكن فن التمثيل الصامت عند الاغريق و الرومان فقط او في مكان واحد من العالم فقد عرف عند الصينين و الفراعنة و السومريين القدماء وفي كثير من الثقافات القديمة ، ويعتبر من افضل الفنون عند الشعوب الموغلة في القدم فلقد كان عند الفراعنة الهة برأس ضفدع يطلق عليه اسم الهة الضحك كان الفراعنة يقدمون له مهرجانات تهريجية تتخللها عروض صامتة تتميز بالطابع الهزلي ، ويقول (اوستاندر ميريل ) في كتابه تاريخ الملهاة :- (انه قبل الميلاد كانت تمثل في بلاد الاهرام مسرحية تهريجية حركية يظهر فيها حمال يحتال على البائعين و الشارين على السواء وكان ذلك في عهد الملك (ساردانابال ) و (رمسيس )وكانت عناصر التعبير آن ذاك هي التكشير و التشويه الجسدي و الاعتلال المصطنع و الاوضاع المختلفة و المشية الكاريكاتورية ) وكان هناك ايضا نوع من التمثيل الصامت ذو الطابع الديني على اكثر احتمال و الذي يشبه الرقصات التي تسمى (Pyrrhic) عند اليونان القدماء و التي تصور معركة بالدموع ضد الاشباح وشجار انفرادي ، ويقول بعض الباحثين . . أن التمثيل الصامت قد جاء الى الاغريق عن طريق صقلية وهنالك من يقول ان (ليفيوس اندروينكس )الانف الذكر - هو اول من قدم التمثيل الصامت في روما ، ولا يمكن البتة ضبط فترة ما يحدد بها اول عرض للبانتومايم لان - عند ابتلاج المدنيات تظافرت عوامل حتمية تعود لنزوع الانسان الى تشوق نواحي الحياة من خلال الطلاسم و السحر . . و هذه العوامل انصبت على توجيه غريزة التقليد و الميل الفطري نحو تجسيد المعاني في صور - وهنا لي وقفة قصيرة مع القارئ الكريم مع قضية السحر لغرض التنويه لما احسه ضمن تجربتي الخاصة كممثل لهذا الفن - ففي كثير من الاحيان وانا على خشبة المسرح اشك باني اقدم شيئا شبيها بالسحر ولا استطيع حينها ان اجد مبررا لهذا الشك ، و لربما يكون ذلك متأتيا من التعامل المباشر مع روحية المشاهد او من جراء العلاقة الممتدة بيني وبينه بخيط وهمي و المنسابة بشفافية خالية من الحركات الراقصة و التي تعطي نفس طقسيتها كما المصافحة بين صديقين حميمين لم يلتقيا منذ فترة طويلة .
ان هذا الفن العريق و بالتحديد في الشرق ايضا له جذوره التي لا يمكن الاستغناء عن كشفها و بالاخص علاقة المسرح الياباني الوثيقة بالتمثيل الصامت ، ونذكر مثلا مسرح
( الباكوكو ) أو (البوغاكو ) هذه الطريقة اليابانية التي جاءت من الهند مجتازة الصين ، حيث كان التمثيل الصامت ذو المحتوى التاريخي و الديني يشغل مكانا كبيرا ولقد نشأ من
( البوغاكو ) فن (الكاغورو) و (السارانماكو ) أي ( مسرح النو ) الياياني الذي مازال حتى يومنا هذا .
ومن المعتقد ان تسمية الممثل الصامت (the mime) قد جاءت من مسرح ( النو) و الذي فيه ممثل صامت يؤدي فواصل بين الحوارات والغناء يطلق عليها كلمة (me ) وهي فواصل خالية من الحوار و الغناء وعند تكرارها نشأت كلمة (meme) والتي ما زالت تستخدم حتى يومنا هذا بعد تعديلها الى كلمة (mime) أي الممثل الصامت .
اما في الغرب و بالتحديد اوربا في العهد الوثني ، فكانت تقام الاحتفالات بمناسبة عيد الربيع و المناسبات الاخرى و التي كانت تصحبها انواع عديدة من الطقوس و العادات مثل (قصة الجمال النائم نومة المائة عام ) و التي تمثل الشتاء الذي يصحو من لدنه الربيع على قبلة الامير ، حيث كان يؤدي ممثلوا التمثيل الصامت بعض الحركات المضحكة وهم يجولون الشوارع .
هكذا كان التمثيل الصامت ( البانتومايم ) بذرة المسرح على الارض منذ القدم حتى تطورت أساليب العرض المسرحي وحددت اماكن العبادة التي تقام فيها العروض - أي في المعابد - وكذلك حددت ازمان العرض لمناسبات معلومة التاريخ في كل الحضارات ، كأن يتكرر الاحتفال في كل عام مرة ، وكان الطابع الديني هو الغالب على موضوعات المسرحيات الصامتة المراد تمثيلها اكثر من غيره . ولكن سرعان ما طرأت التقنيات الجديدة على شكل العرض المسرحي واصبح للمسرحية مؤلف له الصلاحية في تسيير العرض ، وتطورت الحال الى ان اصبح للمؤلف - لا للممثل - المكانة الاكبر على المسرح ، بل واصبح الميزة التي يمتاز بها العرض ، مما حدى به الى ادخال الكلمة على التمثيل الصامت . . ثم الشعر ، وبالتدريج طغت الكلمة الى حد اختفاء فن الحركة ، بعد ان مر ما بين الحوارات في بعض العروض بشخصية كانت تدعى (الكابوتات ) و التي سنعرج عليها فيما بعد .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق